التحول العظيم- نحو نظام عالمي جديد أم فوضى مستمرة؟

المؤلف: نزار كريكش08.27.2025
التحول العظيم- نحو نظام عالمي جديد أم فوضى مستمرة؟

إننا نقف اليوم على أعتاب منعطف تاريخي حاسم، ذي أهمية بالغة، يمكن مقارنته بالتحولات الكبرى التي شهدها الجنس البشري على مر العصور، مثل الثورة الصناعية التي غيرت وجه العالم، أو انهيار الإمبراطورية الرومانية التي هزت أركان الحضارة. وكما أوضح الفيلسوف المرموق كارل بولاني في كتابه "التحول العظيم"، الذي يصف فيه كيف قلبت الرأسمالية السوقية الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التقليدية رأسًا على عقب، فإن عالمنا المعاصر يمر بمرحلة انتقالية مماثلة، ولكنها أكثر اتساعًا وتعقيدًا وتشعبًا من أي وقت مضى.

تتعدد النظريات التي تحاول جاهدة تفسير هذا الواقع المستجد، حيث يرى البعض فيه فوضى عارمة لا نهاية لها، كما صورها ريتشارد هاس في كتابه "العالم في فوضى"، بينما يذهب آخرون إلى أنه تفكك شامل ونهاية العالم الذي نعرفه، كما يزعم المؤرخ نيل فيرغسون.

إلا أن هناك منظورًا أوسع نطاقًا وأكثر شمولية، يرى أن هذه الاضطرابات والفوضى الظاهرة ليست سوى جزء لا يتجزأ من عملية انتقالية ضرورية نحو نظام دولي جديد أكثر عدلاً واستقرارًا، وتُعرف هذه الفرضية باسم "التحول العظيم"، وهي نظرية ساهم في صياغتها نخبة من المفكرين المرموقين والمؤسسات العلمية المرموقة ذات الصيت العالمي.

وعليه، فإننا لا نمر بأزمات متفرقة وعابرة، بل نشهد مسارًا واضحًا ومحددًا المعالم للانتقال من حالة الفوضى الراهنة إلى ولادة نظام عالمي جديد، يحمل في طياته آمالًا وطموحات لمستقبل أفضل.

تيارات رئيسية لسيناريوهات التحول

التيار الأول: تيار دافوس (الاستمرارية عبر التكنولوجيا)

يسعى هذا التيار جاهدًا للحفاظ على النظام القديم بكل ما أوتي من قوة، ولكنه يحاول في الوقت ذاته تجميل صورته وإضفاء لمسة عصرية عليه من خلال الاستعانة بالتحولات التقنية الهائلة التي يشهدها العالم. ويتجلى ذلك بوضوح في فعاليات مؤتمر دافوس، وفي نظرية "الثورة الصناعية الرابعة" التي طرحها كلاوس شواب، وكذلك في كتابات يوفال نوح حراري، المقرّب منه.

يربط هذا التنظير المعقد بين التقدم التكنولوجي المتسارع والتحول العالمي الشامل، ويرى أن البشر لم يعودوا سوى مجرد بيانات قابلة للتحليل والمعالجة والبرمجة من قبل الشبكات العصبية الاصطناعية المتطورة. وفي هذا السياق، يفقد الإنسان دوره المحوري كصانع للقرار، ويتحول إلى كائن يتم "برمجته" وتوجيهه وفقًا لأهواء ورغبات المتحكمين بالتكنولوجيا.

ويرى المنتقدون أن هذا التيار يمثل جزءًا من محاولة خبيثة لنقل السلطة إلى أيدي التكنوقراطيين الذين يسيطرون على المال والتكنولوجيا، والذين يسعون جاهدين لفرض نظام عالمي موحد، متجانس، لا يعترف بالتنوع الثقافي أو الخصوصيات المحلية.

وبحسب هذا التيار، يجب على الدول النامية، وخاصة في الجنوب العالمي، أن تلتزم بقواعد اللعبة الجديدة التي تفرض عليها الانفتاح التام على استثمارات الشركات الكبرى، دون أدنى اعتبار للأعراف أو الهويات الثقافية الأصيلة.

في هذا السياق، تُعتبر القيم النبيلة مثل التنوع الثقافي، والكرامة الإنسانية، وحتى فكرة العالم متعدد الأقطاب، بمثابة عقبات أمام "التمدد التقني الكبير". وبالتالي، فإن الخيار الوحيد المتاح أمامنا هو إما قبول هذا المستقبل "الوردي" الذي ترسمه الشركات الكبرى، أو العودة إلى "الماضي"، وهو أمر يُصنَّف بأنه غير عملي وغير متناسب مع مسار التطور الحتمي.

تيار نظرية الفوضى (تفكك النظام القديم)

وعلى النقيض من ذلك، يرى تيار آخر أن النظام العالمي الحالي، الذي تم تشكيله بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، قد فقد قدرته على استيعاب وإدارة التعقيدات الجديدة التي يشهدها العالم، سواء كانت هذه التعقيدات ديمغرافية، أو بيئية، أو تقنية، أو حتى فكرية، فإن المنظومة الاقتصادية والسياسية القائمة لم تعد قادرة على مواكبة هذه التطورات المتسارعة.

يشير هذا التيار إلى أن النظام العالمي قد انحرف عن مساره الطبيعي، كما ذكر عالم المستقبليات زيا ساردار، وأننا نعيش حالة من الخلل العميق والشامل في كل مناحي الحياة: من السياسة إلى الاقتصاد، ومن البيئة إلى الثقافة.

إن العودة إلى الغاب، أو العالم في فوضى، أو تفكك العالم، ليست مجرد عناوين عابرة، بل هي حقائق ملموسة تعكس واقعًا مريرًا. وإذا تتبعت البحث عن هذه المصطلحات في محرك البحث Google Trends، فستجد أنها تنتشر بشكل كبير في دول أميركا اللاتينية ودول أفريقية، وذلك لأسباب مفهومة وواضحة.

خير مثال على ذلك هو المقارنة بين حرب العراق عام 2003، حيث حرصت الولايات المتحدة وبريطانيا على الحصول على غطاء قانوني من الأمم المتحدة رغم عدم موافقتها على العملية، وبين الضربات الإسرائيلية الحديثة على إيران، حيث لم يعد القانون الدولي أو الشرعية عنصرًا في الحسابات السياسية.

بل إن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب نفسه أعلن صراحة أنه لا يعبأ بالقوانين الدولية، وتعامل وكأنه إمبراطور لا يمكن لأحد منازعته أو محاسبته. وهذا يدل بوضوح على أن النظام العالمي يفقد تدريجيًا قدرته على ضبط النفس، ويدخل في حالة من الفوضى المتسارعة، مما يستدعي إعادة نظر جذرية في مفاهيم السيادة، والقانون الدولي، والتعاون البشري.

التيار الثالث: التحول العظيم

في المقابل، نجد مشاريع وكتبًا ودراسات وتيارات فكرية ترى أن العالم يعيش حالة من الفوضى العارمة، وأن بنية النظام العالمي والاقتصادي الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية لم يعد قادرًا على استيعاب وإدارة المتغيرات الهائلة التي يشهدها العالم، سواء التحولات الكبرى في مجالات الديمغرافيا، والبيئة (بما في ذلك الطاقة)، والتقنية، أو التحولات في البنية الفكرية التي تشمل النظريات الاقتصادية والسياسية المرتبطة بفكرة التوازن، كنظرية الأقطاب والعرض والطلب، أو ما يسمى بالمنهج الاختزالي السائد في العالم بعد مدرسة فيينا التي تسربت إلى المناهج العلمية والجامعات بعد الحرب العالمية الثانية.

إسرائيل جزء لا يتجزأ من تلك المدرسة الفكرية. فقد كان ثيودور هرتزل نفسه من دائرة فيينا، والفكر الذي نشأ عن هذه المدرسة هو الذي أسس لأغلب النظريات التي تُدرَّس في جامعات العالم اليوم، سواء في العلوم التطبيقية أو الإنسانية.

إن جميع البروتوكولات التي يُكتب بها البحث العلمي في الجامعات مصدرها هذه المدرسة الفكرية. ولكن كل ذلك يتفكك اليوم، ونحن نعيش في وضع غير طبيعي، كما كتب عالم المستقبليات ساردار ضياء الحق.

لذا، فإن ما نعيشه اليوم هو خلل كبير في النظام العالمي، وعجز تام عن إدارة شؤون الكوكب. ويمكن هنا أن نستشهد بما يحدث من عدوان إسرائيلي على إيران، ومقارنته بما حدث في حرب العراق. ورغم أن الحربين تمثلان حالة من الفوضى في صناعة القرار، فإن المقارنة بينهما تبين حالة الفوضى بشكل جلي وواضح.

ففي حرب العراق، كان الحصول على قرار من الأمم المتحدة أمرًا بالغ الأهمية، والتوصيف القانوني للتوجه نحو الحرب استغرق وقتًا طويلاً، حتى استطاعت بريطانيا أن تشكل تحالفات تقتنع بشرعية الحرب ضمن القرار رقم 14001 الصادر عن مجلس الأمن.

لم يكن الأمر سهلاً من الناحية القانونية إطلاقًا، ويقول توني بلير في مذكراته إنه، على كل حال، وُجد وجه قانوني سهّل عليهم الحصول على شرعية الحرب والوصول إلى حلفاء يمكنهم دعم شرعية المعركة.

ولكن إذا قارنت ما حدث في العراق بما يحدث اليوم، فستجد أن ضرب إسرائيل لإيران وتصريحات ترامب لا تبالي بأي شيء اسمه قانون أو شرعية، بل إن رئيس الولايات المتحدة الأميركية تحدث علنًا عن الاغتيالات في انتهاك صارخ ليس فقط لسيادة الدول، بل تعامل بمنطق الإمبراطور الذي على الجميع أن يحذر من غضبه.

التحول العظيم

التيار الثالث هو الذي ينظر إلى كل تلك المؤشرات على أنها قوى دافعة نحو نظام عالمي جديد. وبالطبع، يخطئ الكثيرون عندما يتصورون أن هذا العالم الجديد سيكون متعدد الأقطاب، فيستخدمون أبجديات الماضي لرسم صورة المستقبل، وهذا يجعل الأفق يضيق والإبداع يتضاءل.

يمثل هذا التيار كتّاب من اليسار مثل هيرديت نيجري في كتابه "الإمبراطورية"، أو تصورات عن نظرية الشبكة مثل أنا ماريا، مستشارة الرئيس الأميركي السابق أوباما، أو مشروع "نظرية التحول العظيم" لمجموعة من الجامعات المرموقة.

هنا تكون الحرب جزءًا من التحول إذا لم تنتهِ بحالة بربرية. فالوعي المتنامي، وتماثل العالم مع المعرفة الكونية، ووجود جهد حقيقي لحماية البيئة، ونشأة المواطن العالمي، فضلاً عن مؤسسات تخضع للقانون وليس لمجرد قواعد عامة غير ملزمة كما هو حال النظام العالمي الحالي، قد يتطور ذلك إلى تحول كبير يطال كل شيء حين تكون التقنية في سياقها الصحيح، أي دعم قدرة البشر على حل مشاكلهم بطريقة إبداعية بعيدة عن الانحيازات الثقافية والانقسامات العرقية والإثنية.

العرب والتحول العظيم

هذه المسارات الثلاثة لن تتحقق بشكل تلقائي أو عفوي، بل سيعتمد هذا التحول بشكل كبير على جهد الناس وقدرتهم على الدفع نحو مستقبل مشرق ومزدهر. لذا، فإن المخاطر التي تواجه الأمة الإسلامية والعربية تكمن في أن تنتهي هذه الحروب والأزمات بها إلى حالة من الفوضى والتخلف، مما يجعل مسارها محصورًا في المقاعد الخلفية.

ومن هنا، تتحول إلى حضارة ميتة بينما تنمو دول وشعوب أخرى استطاعت أن تنفذ من حبال الإمبراطورية الأميركية، وتتقدّم نحو الأمام لتكون في مصافّها، وربما فرضت إرادتها في ظل التحولات الكبرى التي يشهدها العالم.

تأمل في الدول الإسكندنافية، وفي دول من جنوب شرق آسيا، لترى كيف أن هذه المسارات قد تختلف من منطقة لأخرى. وهذا يعني أن مجموعة من الأفكار السائدة ستنتهي إلى غير رجعة، كالحداثة وما بعد الحداثة، والرأسمالية، والديمقراطية، وغيرها الكثير.

فكل شيء من مخلفات الحداثة، بما فيها إسرائيل، سيكون جزءًا من الماضي عندما تنشأ دول قادرة على فرض سرديتها ومعارفها وتسريبها في المجال الأكبر، الذي تحدث عنه بنجامين برتيون في كتابه عن البرمجة والسيادة. فالأولى- أي البرمجة- صارت هي المعرفة، ومن ثم ستتبعها السيادة في مجال يُسمّيه النسق أو التراكم النسقي.

إن المستقبل قد أصبح جزءًا لا يتجزأ من عملية التصميم التي يسعى الكثيرون إلى تحقيقها. إنه عبارة عن خيال وأفكار تتراكم لتكوين نسقًا شاملاً ينشأ عنه تحول عظيم. إنه عمل دؤوب لتحقيق هذه التصاميم على أرض الواقع، وعندما ينجح الآخرون في بناء نظام آخر لم نُسهم فيه، عندها سندرك حجم الخطأ الذي ارتكبناه.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة